فصل: ذكر فتح هرقلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.حوادث سنة أربع عشرة ومائتين:

.ذكر قتل محمد الطوسي:

فيها قتل محمد بن حميد الطوسي، قتله بابك الخرمي، وسبب ذلك أنه لما فرغ من أمر المتغلبين على طريقه إلى بابك سار نحوه وقد جمع العساكر، والآلات، والميرة، فاجتمع معه عالم كثير من المتطوعة من سائر الأمصار، فسلك المضايق إلى بابك، وكان كلما جاوز مضيقاً أوعقبة ترك عليه من يحفظه من أصحابه إلى أن نزل بهشتادسر، وحفر خندقأن وشاور في دخول بلد بابك، فأشاروا عليه بدخوله من وجه ذكروه له، فقبل رأيهم، وعبى أصحابه، وجعل على القلب محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الطائي، المعروف بأبي سعيد، وعلى الميمنة السعدي بن أسرم وعلى الميسرة العباس بن عبد الجبار اليقطيني، ووقف محمد ن حميد خلفهم في جماعة ينظر إليهم، ويأمرهم بسد خل إن رآه، فكان بابك يشرف عليهم من الجبل، وقد كمن لهم الرجال تحت كل صخرة.
فلما تقدم أصحاب محمد، وصعدوا في الجبل مقدار ثلاثة فراسخ، خرج عليهم الكمناء وانحدر بابك إليهم فيمن معه، وانهزم الناس، فأمرهم أبوسعيد ومحمد بن حميد بالصبر، فلم يفعلوأن ومروا على وجوههم، والقتل يأخذهم، وصبر محمد بن حميد مكانه، وفر من كان معه غير رجل واحد، وسارا يطلبان الخلاص، فرأى جماعة وقتالأن فقصدهم، فرأى الخرمية يقاتلون طائفة من أصحابه، فحين رآه الخرمية قصدوه لما رأوا من حسن هيئته، فقاتلهم، وقاتلوه، وضربوا فرسه بزراق، فسقط إلى الأرض، وأكبوا على محمد بن حميد فقتلوه.
وكان محمد ممدحاً جوادأن فرثاه الشعراء وأكثروأن منهم الطائي، فلما وصل خبر قتله إلى المأمون عظم ذلك عنده، واستعمل عبد الله بن طاهر على قتال بابك فسار نحوه.

.ذكر حال أبي دلف مع المأمون:

كان أبودلف من أصحاب محمد الأمين، وسار علي مع بن عيسى ابن ماهان إلى حرب طاهر بن الحسين، فلما قتل علي عاد أبودلف إلى همذان، فراسله طاهر بستميله، ويدعوه إلى بيعة المأمون، فلم يفعل، وقال: إن في عنقي بيعة لا أجد إلى فسخها سبيلأن ولكني سأقيم مكاني لا أكون مع أحد الفريقين إن كففت عني، فأجابه إلى ذلك، فأقام بكرج.
فلما خرج المأمون إلى الري راسل أبا دلف يدعوه إليه، فسار نحوه مجداً. وهوخائف، شديد الوجل، فقال له أهله وقومه وأصحابه: أنت سيد العرب، وكلها تطيعك، فإن كنت خائفاً فأقم، ونحن مننعك، فلم يفعل، وسار وهويقول:
أجود بنفسي دون قومي دافعاً ** لما نابهم قدماً وأغشى الدواهيا

وأقتحم الأمر المخوف اقتحامه ** لأدرك مجداً أوأعاود ثاويا

وهي أبيات حسنة؛ فلما وصل إلى المأمون أكرمه، وأحسن إليه وأمنه، وأعلى منزلته.

.ذكر استعمال عبد الله بن طاهر على خراسان:

في هذه السنة استعمل المأمون عبد الله بن طاهر على خراسان فسار إليها.
وكان سبب مسيره إليها أن أخاه طلحة لما مات ولي خراسان علي بن طاهر، خليفة لأخيه عبد الله، وكان عبد الله بالدينور يجهز العساكر إلى بابك، وأوقع الخوارج بخراسان بأهل قرية الحمراء من نيسابور، فأكثروا فيهم القتل، واتصل ذلك المأمون، فأمر عبد الله بن طاهر بالمسير إلى خراسان، فسار إليهأن فلما قدم نيسابور كان أهلها قد قحطوأن فمطروا قبل وصوله إليها بيوم واحد، فلما دخلها قام إليه رجل بزبز فقال:
قد قحط الناس في زمانهم ** حتى إذا جئت جئت بالدرر

غيثان في ساعة لنا قدما ** فمرحباً بالأمير والمطر

فأحضره عبد اله وقال له: أشاعر أنت؟ قال: لا! ولكني سمعتها بالرقة فحفظتهأن فأحسن إليه، وجعل إليه أن لا يشتري له شيء من الثياب إلا بأمره.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة خرج بلال الغساني الشاري، فوجه إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من القواد، فقتل بلال.
وفيها قتل أبوالرازي باليمن.
وفيها تحرك جعفر بن داود القمي، فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر، وكان هرب من مصر فرد إليها.
وفيها ولى علي بن هشام الجبل، وقم، وأصبهان، وأذربيجان.
وفيها توفي إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، عليه السلام، بالمغرب، وقام بعده ابنه محمد بأمر مدينة فاس، فولى أخاه القاسم البصرة وطنجة وما يليهما. واستعمل باقي إخوته على مدن البربرة.
وفيها سار عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس إلى مدينة باجة، وكانت عاصية عليه من حين فتنة منصور إلى الآن، فملكها عنوة.
وفيها خالف هاشم الضراب بمدينة طليطلة، من الأندلس، على صاحبها عبد الرحمن، وكان هاشم من خرج من طليطلة لما أوقع الحكم بأهلهأن فسار إلى قرطبة، فلما كان الآن سار إلى طليطلة، فاجتمع إليه أهل الشر وغيرهم فسار بهم إلى وادي نحوييه وأغار على البربر وغيرهم، فطار اسمه، واشتدت شوكته، واجتمع له جمع عظيم، وأوقع بأهل شنت برية.
وكان بينه وبين البربر وقعات كثيرة، فسير إليه عبد الرحمن هذه السنة جيشأن فقاتلوه، فلم تستظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، وبقي هشام كذلك، وغلب على عدة مواضع، وجاوز بركة العجوز، وأخذت غارة خيله، فسير إليه عبد ارحمن جيشاً كثيفاً سنة ست عشرة ومائتين، فلقيهم هاشم بالقرب من حصن سمسطا بمجاورة رورية، فاشتدت الحرب بينهم، ودامت عدة أيام، ثم انهزم هاشم، وقتل هووكثير ممن معه من أهل الطمع والشر وطالبي الفتن، وكفى الله الناس شرهم.
وحج بالناس إسحاق بن العباس بن محمد.
وفيها توفي أبوهاشم النبيل واسمه الضحاك بن محمد الشيباني، وهوإمام في الحديث.
وفيها توفي أبوأحمد حسين بن محمد البغدادي.

.حوادث سنة خمس عشرة ومائتين:

.ذكر غزوة المأمون إلى الروم:

في هذه السنة سار المأمون إلى الوم في المحرم، فلما سار استخلف على بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وولاه مع ذلك السواد، وحلوان، وكور دجلة، فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، فلقيه بهأن فأجاره، وأمره بالدخول بابنته أم الفضل، وكان زوجها منه، فأدخلت عليه، فلما كان أيام الحج سار بأهله إلى المدينة فأقام بها.
وسار المأمون على طريق الموصل، حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى المصيصة وطرسوس، ودخل منها إلى بلاد الروم في جمادى الأولى، ودخل ابنه العباس من ملطية، فأقام المأمون على حصن قرة حتى افتتحه عنوة، وهدمه لأربع بقين من جمادى الأولى، وقيل إن أهله طلبوا الأمان فأمنهم المأمون، وفتح قبله حصن ماجدة بالأمان، ووجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفأن وجعفراً الخياط إلى صاحب حصن سناذ، فسمع وأطاع.
وفيها عاد المعتصم من مصر، فلقي المأمون قبل دخوله الموصل، ولقيه منويل، وعباس بن المأمون برأس عين.
وفيها توجه المأمون بعد خروجه من بلاد الروم إلى دمشق؛ وحج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
وفيها توفي قبيصة بن عقبة السوائي، وأبويعقوب إسحاق بن الطباخ الفقيه، وعلي بن الحسن بن شقيق صاحب ابن المبارك، وثابت بن محمد الكندي العابد المحدث، وهوذة بن خليفة بن عبد اله بن عبيد الله بن أبي بكرة أبوالأشهب، وأبوجعفر محمد بن الحارث الموصلي، وأبوسليمان الداراني الزاهد توفي بداريأن ومكي بن إبراهيم التيمي البلخي ببلخ، وهومن مشايخ البخاري في صحيحه، وقد قارب مائة سنة، وأبوزيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري اللغوي النحوي، وكان عمره ثلاثاً وتسعين سنة.
وفيها توفي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك أبوسعيد الأصمعي اللغوي البصري، وقيل سنة ست عشرة، ومحمد بن عبد اله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة.

.حوادث سنة ست عشرة ومائتين:

.ذكر فتح هرقلة:

في هذه السنة عاد المأمون إلى بلاد الروم؛ وسبب ذلك أنه بلغه أن ملك الروم قتل ألفاً وستمائة من أهل طرسوس والمصيصة، فسار حتى دخل أرض الروم في جمادى الأولى، فأقام إلى منتصف شعبان.
وقيل كان سبب دخوله إليها أن ملك الروم كتب إليه وبدا بنفسه، فسار إليه، ولم يقرأ كتابه، فلما دخل أرض الروم أناخ على أنطيغوأن فخرجوا على صلح؛ ثم سار إلى هرقلة، فخرج أهلها على صلح، ووجه أخاه إبا إسحاق المعتصم، فافتتح ثلاثين حصنأن ومطمورة، ووجه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار، وقتل، وأحرق، فأصاب سبيأن ورجع؛ ثم سار المأمون إلى كيسوم، فأقام بها يومين، ثم ارتحل إلى دمشق.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها ظهر عبدوس الفهري بمصر، فوثب على عمال المعتصم، فقتل بعضهم في شعبان، فسار المأمون من دمشق إلى مصر منتصف ذي الحجة.
وفيها قدم الأفشين من برقة، فأقام بمصر.
وفيها كتب المأمون إلى أسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوأن فبدأ بذلك منتصف رمضان، فقاموا قيامأن وكبروا ثلاثأن ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة.
وفيها غضب المأمون على علي بن هاشم ووجه عجيفاً وأحمد بن هاشم، وأمر بقبض أمواله وسلاحه.
وفيها ماتت أم جعفر زبيدة أم الأمين ببغداد.
وفيها تقدم غسان بن عباد من السند، ومعه بشر بن داود، مستأمنأن وأصلح السند واستعمل عليها عمران بن موسى العتكي.
وفيها هرب جعفر بن داود القمي إلى قم وخلع الطاعة بهأن وحج بالناس، في قول بعضهم، سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله ابن عباس؛ وقيل حج بهم عبد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، وكان المأمون ولاه اليمن، وجعل إليه ولاية كل بلد يدخله، فسار من دمشق، فقدم بغداد فصلى بالناس يوم الفطر، وسار عنهأن فحج بالناس.
وفيها توفي أبومسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني بغداد، ومحمد ابن عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب المهلبي، أمير البصرة هأن ويحيى ابن يعلي المحاربي، وإسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي.

.حوادث سنة سبع عشرة ومائتين:

في هذه السنة ظفر الأفشين بالفرما من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، ووصل المأمون إلى مصر في المحرم من هذه السنة، فأتي بعبدوس الفهري، فضرب عنقه، وعاد إلى الشام.
وفيها قتل المأمون علي بن هشام، وكان سبب ذلك أن المأمون كان استعمله على أذربيجان وغيرهأن كما تقدم ذكره، فبلغه ظلمه، وأخذه الأموال، وقتله الرجال، فوجه إليه عجيف بن عنبسة، فثار به علي بن هشام، وأراد قتله وإلحاق ببابك، وظفر به عجيف، وقدم به على المأمون، فقتله، وقتل أخاه حبيباً في جمادى الأولى، وطيف برأس علي في العراق، وخراسان، والشام، ومصر، ثم ألقي في البحر.
وفيها عاد المأمون إلى بلاد الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنهأن وترك عليها عجيفأن فخدعه أهلهأن وأسروه، فبقي عندهم ثمانية أيام، وأخرجوه، وجاء توفيل ملك الروم فأحاط بعجيف فيه، فبعث إليه الجنود، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان، وأرسل ملك الروم يطلب المهادنة فلم يتم ذلك.
وفيها سار المأمون إلى سلغوس.
وفيها بعث علي بن عيسى القمي إلى جعفر بن داود القمي، فقتل، وحج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.
وفيها توفي الحجاج بن المنهال بالبصرة، وسريج بن النعمان. سريج بالسين المهملة والجيم. وسعدان بن بشر الموصلي يروي عن الثوري.
وفيها توفي الخليل بن أبي رافع الموصلي، وكان عالماً عابدأن وأبوه جعفر بن محمد بن أبي يزيد الموصلي، وكان فاضلاً.

.حوادث سنة ثماني عشرة ومائتين:

.ذكر المحنة بالقرآن المجيد:

وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والشهود والمحدثين بالقرآن، فمن أقر أنه مخلوق محدث خلي سبيله، ومن أبى أعلمه به ليأمره فيه برأيه؛ وطول كتابه بإقامة الدليل على خلق القرآن وترك الاستعانة بمن امتنع عن القول بذلك، وكان الكتاب في ربيع الأول، وأمره بإنفاذ سبعة نفر منهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبومسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبوخيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه، فسألهم، وامتنحهم عن القرآن، فأجابوا جميعاً: إن القرآن مخلوق، فأعادهم إلى بغداد، فأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره، وشهر قولهم بحضرة المشايخ من أهل الحديث، فأقروا بذلك، فخلى سبيلهم.
وورد كتاب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم بامتحان القضاة والفقهاء، فأحضر إسحاق بن إبراهيم أبا حسان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غامن، والذيال بن الهيثم، وسجادة، والقواريري، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وعلي ابن جعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطاب كان قاضي الرقة، وأبا نصر التمار، وأبا معمر القطيعي، وحمد بن حاتم ابن ميمون، ومحمد بن نوح المضروب، وابن الفرخان، وجماعة منهم: النضر بن شميل، وابن علي بن عاصم، وأبوالعوام البزار، وابن شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، فأدخلوا جميعاً على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: مات تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقاتلي أمير المؤمنين غير مرة، قال: فقد تجدد من كتاب المؤمنين ما ترى؛ فقال: أقول القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذأن أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء، قال: فالقرآن شيء؟ قال: نعم؛ قال: فمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس أسألك عن هذأن أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك.
فأخذ إسحاق رقعة، فقرأها عليه، ووقفه عليهأن فقال: أشهد أن لا إله إلا الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ووجه من الوجوه. قال: نعم؛ وقال للكاتب: أكتب ما قال.
ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول؟ قال: سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة، وما عندي غيره، فامتحنه بالرقعة، فأقر بما فيهأن ثم قال له: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا قال: القرآن كلام الله، فإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. فقال للكاتب: أكتب مقالته.
ثم قال للديال نحواً من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال مثل ذلك.
ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قال: سل عما شئت؛ فقرأ عليه الرقعة، فأقر بما فيهأن ثم قال: ومن لم يقل هذا الول فهوكافر، فقال: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وأمير المؤمنين أمامنأن وبه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنأن فصار يقيم حجنأن وصلاتنأن ونؤدي إليه زكاة أموالنأن ونجاهد معه، ونرى إمامته فإن أمرنا ائتمرنا وإن نهانا انتهينا.
قال: فالقرآن مخلوق؟ فأعاد مقالته. قال إسحاق: فإن هذه مقالة أمير المؤمنين. قال: قد تكون مقالته ولا يأمر بها للناس، وإن خبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول قلت ما أمرتني به. فإنك الثقة فيما أبلغتني عنه. قال: ما أمرني أن أبلغك شيئاً. قال أبوحسان: وما عندي إلا السمع والطاعة، فامرني أأتمر، قال: ما أمرني أن آمركم وإمنا أمرني أن أمتحنكم.
ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله ما أزيد عليهأن فامتحنه بما في الرقعة، لما أتى إلى ليس كمثله شيء قرأ: {وهوالسميع البصير} الشورى: 11، وأمسك عن: ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن وبصير من عين، فقال إسحاق لأحمد: ما معنى قولك: سميع بصير؟ قال: هوكما وصف نفسه. قال: فما معناه؟ قال: لا أدري أهوكما وصف نفسه.
ثم دعا بهم رجلاً رجلاً كلهم يقول القرآن كلام الله إلا قتيبة وعبيد الله بن محمد بن الحسن وابن علية الأكبر وابن البكاء وعبد المنعم بن إدريس ابن بنت، ووهب بن منبه، والمظفر بن مرجي، ورجلاً من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة، وابن الأحمر، فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال: القرآن مجعول لقول الله، عز وجل: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} الزخرف: 3 والقرآن محدث لقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} الأنبياء: 2.
قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قال: نعم. قال: والقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول، فكتب مقالته، ومقالات القوم رجلاً رجلأن ووجهت إلى المأمون، فأجاب المأمون يذمهم، ويذكر كلاً منهم، ويعيبه ويقع فيه بشيء، وأمره أن يحضر بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي ويمتحنهمأن فإن أجابأن وإلا فاضرب أعناقهمأن وأما من سواهمأن فإن أجاب إلى القول بخلق القرآن، وإلا حملهم موثقين بالحديد إلى عسكره مع نفر يحفظونهم.
فأحضرهم إسحاق، وأعلمهم بما أمر به المأمون، فأجاب القوم أجمعون إلا أربعة نفر، وهم أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد ابن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد، فلما كان الغد دعاهم في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة والقواريري فأطلقهما وأصر أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح على قولهمأن فشدا في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب إلى المأمون بتأويل القوم فيما أجابوا إليه، فأجابه المأمون: إنني بلغني عن بشر بن الوليد بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} النحل: 106، وقد أخطأ التأويل إنما عنى الله سبحانه وتعالى هذه الآية من كان معتقداً للإيمان، مطهراً للشرك، فأما من كان معتقداً للشرك، مظهراً للإيمان، فليس هذا له.
فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأحضرهم إسحاق، وسيرهم جميعاً إلى العسكر، وهم: أبوحسان الزيادي، وبشر بن الوليد، والفضل بن غامن، وعلي بن مقاتل، والذيال بن الهيثم، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وعلي بن الجعد، وأبوالعوام، وسجادة، والقواريري، وابن الحسن بن علي بن عاصم، وإسحاق بن أبي إسرائيل، والنصر بن شميل، وأبونصر التمار، وسعدويه الواسطي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وأبومعمر بن الهرش، وابن الفرخان، وأحمد بن شجاع، وأبوهارون بن البكاء، فلما صاروا إلى الرقة بلغهم موت المأمون فرجعوا إلى بغداد.

.ذكر مرض المأمون ووصيته:

وفي هذه السنة مرض المأمون مرضه الذي مات فيه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة.
وكان سبب مرضه ا ذكره سعد بن العلاف القارئ قال: دعاني المأمون يومأن فوجدته جالساً على جانب البذندون، والمعتصم عن يمنينه، وهما قد دليا أرجلهما في الماء، فأمرني أن أضع رجلي في الماء، وقال: ذقه! فهل رأيت أعذب منه، أوأصفى صفاء، أوأشد برداً؟ ففعلت، وقلت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت مثله قط، فقال: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم؛ فقال: الرطب الأزاذ.
فبيمنا هويقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت، فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: انظر إن كان في هذه الألطاف رطب أزاذ فأت به! فمضى، ومعه سلتان فيهما آزاذ كأمنا جني تلك الساعة، فاظهر شكراً لله تعالى، وتعجبنا جميعأن وأكلنأن وشربنا من ذلك الماء، فما قام أحد منا إلا وهومحموم، وكانت منية المأمون من تلك العلة، ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، وبقيت أنا مريضاً مدة.
فلما مرض المأمون أمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من عبد الله المأمون أمير المؤمنين، وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق بن هارون الرشيد؛ وأوصى إلى المعتصم بحضرة ابنه العباس، وبحضرة الفقهاء، والقضاة، والقواد، وكانت وصيته، بعد الشهادة، والإقرار بالوحدانية، والبعث، والجنة، والصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، والأنبياء: إني مقر مذنب، أرجو، وأخاف إلا أني إذا ذكرت عفوالله رجوت، وإذا مت فوهوني، وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني، ثم أكثروا حمد الله على الإسلام، ومعرفة حقه عليكم في محمد، صلى الله عليه وسلم، إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي، وليصل علي أقربكم نسباً وأكبركم سنأن وليكبر خمسأن ثم احملوني، وابلغوا بي حفرتي، ولينزل بي أقربكم قرابة، وأودكم محبة.
وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن، واستقبلوا بي القبلة، ثم حلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا الحد باللبن، وأحثوا تراباً عليّ واخرجوا عني، وخلوني وعملي، وكلكم لا يغني عني شيئأن ولا يدفع عني مكروهأن ثم قفوا بأجمعكم، فقولوا خيراً إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون، ولا تدعوا باكية عندي فإن المعول عليه يعذب، رحم الله عبداً اتعظ، وفكر فيما حتم الله على خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء.
ثم لينظر فيه ما كنت من عز الخلافة، هل عني ذلك شيئاً إذ جاء أمر الله؟ لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، قيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرأن بل ليته لم يكن خلقاً.
يا أبا إسحاق ادن منين واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام، واعمل في الخلافة، إذا طوقكها الله، عمل المريد لله الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته وكأن قد نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية والعوام، فإن الملك بهم ويتعهدك لهم، الله الله فيهم، وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدمته، وآثرته على غيره من هواك.
وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم، وتأن بهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وأنظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم، فلا تغفل عنهم في كل وقت، والخرمية فأغرهم ذا حزامة، وصرامة وجلد، وأمنه بالأموال والجنود، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجياً ثواب الله عليه.
ثم دعا المعتصم، بعد ساعة، حين اشتد الوجع، وأحس بمجيء أمر الله، فقال: يا أبا إسحاق! عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم! قال: هؤلاء بن عمك من ولد أمير المؤمنين علي، لوات الله عليه، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسبنهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلهأن فغن حقوقهم تجب من وجوه شتى، اتقوا الله ربكم حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوا الله، واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلهأن أستودعكم الله ونفسي، وأستغفر الله ما سلف مني إنه كان غفاراً فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمهأن وإليه أنيب، ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل. وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة.